كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما التقى القين العراقي بأسته ** فرغت إلى القين المقيّد بالحجل

أي قصدته بما يسوؤه، وهذا القول اختيار الفندي والكسائي.
وقال بعضهم: إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: سنفرغ لكم مما أوعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم، وننجز لكم ما وعدناكم، ونوصل كلا إلى ما عدناه، فيتمّ ذلك ويفرغ منه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل وابن زيد، وقال ابن كيسان: الفراغ للفعل هو التوفر عليه دون غيره. {أَيُّهَ الثقلان} أي الجن والإنس، دليله قوله في عقبه {يامعشر الجن والإنس} سمّيا ثقلين؛ لأنهما ثقل أحياءً وأمواتًا، قال الله سبحانه: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} [الزلزلة: 2] وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعام: ثقل؛ لأن واجده وصائده يفرح إذا ظفر به قال الشاعر:
فتذكّرا ثقلًا رثيدًا بعدما ** ألقت ذكاءُ يمينها في كافر

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» فجعلهما ثقلين إعظامًا لقدرهما، وقال جعفر الصادق: سمي الجن والانس ثقلين؛ لأنهما مثقلان بالذنوب.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم} ولم يقل: استطعتما؛ لأنهما فريقان في حال جمع كقوله سبحانه: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] وقوله سبحانه: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19].
{أَن تَنفُذُواْ} تجوزوا {مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض} أي أطرافها {فانفذوا} ومعنى الآية إن استطعتم ان تجوزوا اطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا، وانما يقال لهم هذا يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني هاربين من الموت، فأخبر أنه لا يجيرهم من الموت ولا محيص لهم منه، ولو نفذوا من أقطار السماوات والأرض كانوا في سلطان الله عز وجل وملكه، وقال ابن عباس: يعني: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا، ولن تعلموه إلاّ بسلطان يعني البيّنة من الله سبحانه.
{لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أي حجة.
قال ابن عباس وعطاء: لا تخرجون من سلطان، وقيل معناه إلاّ إلى سلطاني كقوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} [يوسف: 100] أي أحسن أليّ، وقال الشاعر:
أسىء بنا أفأحسني لا ملومة ** لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

وفي الخبر: يحاط على الخلق الملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم... فذلك قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق بكسر الشين، غيرهما بضمّه، وهما لغتان مثل صُوار من البقر، وصَوار وهو اللهب، قال حسان بن ثابت يهجو أُمية بن أبي الصلت:
هجوتك فاختضعتَ لها بذلٍّ ** بقافية تأجج كالشواظ

وقال رؤبة:
إن لهم من وقعنا أقياظا ** ونار حرب تسعر الشواظا

وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب {وَنُحَاسٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر السين عطفًا على النار، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون بالرفع عطفًا على الشواط، واختاره أبو عبيد.
قال سعيد بن جبير: النحاس: الدخان، وهي رواية أبي صالح وابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال النابغة:
يضيء كضوء سراج السليط ** لم يجعل الله فيه نحاسا

قال الاصمعي: سمعت أعرابيًا يقول: السليط: دهن السنام ولا دخان له، وقال مجاهد وقتادة: هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال مقاتل: هي خمسة أنهار من صفر ذائب تجري من تحت العرش على رءوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار، وقال عبد الله بن مسعود: النحاس: المهل. ربيع: القطر. الضحّاك: دُرديّ الزيت. الكسائي: هو الذي له ريح شديدة {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فلا تنتقمان وتمتنعان.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشقت} انفرجت {السماء} فصارت أبوابًا لنزول الملائكة، بيانه قوله سبحانه: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلًا} [الفرقان: 25] {فَكَانَتْ} صارت {وَرْدَةً} مشرقة، وقيل: متغيّرة، وقيل: بلون الورد.
قال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها يومئذ لون آخر {كالدهان} اختلفوا فيه. قال ابن عباس والضحاك وقتادة والربيع: يعني كلون غرس الورد، يكون في الربيع كميتًا أصفر، فإذا ضربه أول الشتاء يكون كميتًا أحمر، فإذا اشتدّ الشتاء يكون كميتًا أغبر، فشبه السماء في تلوّنها عند انشقاقها بهذا الغرس في تلوّنه، وقال مجاهد وأبو العالية: كالدّهن، وهي رواية شيبان عن قتادة، قال: الدهان جمع الدهن، وللدهن ألوان، شبّه السماء بألوانه. وقال: عطاء بن أبي رياح: كعصير الزيت يتلوّن في الساعة ألوانًا.
وقال الحسين بن الفضل: كصبيب الدهن يتلوّن. وقال ابن جريج: تذوب السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم، وقال مقاتل: كدهن الورد الصافي.(وقال) مؤرخ: كالوردة الحمراء، وقال الكلبي: كالأديم الأحمر، وجمعه أدهنة.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة، قال: حدّثنا ابن أيوب قال: حدّثنا لقمان الحنفي قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم على شاب في جوف الليل وهو يقرأ هذه الآية: {فَإِذَا انشقت السماء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء، ويحي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا فتى مثلها أو مثّلها، فوالذي نفسي بيده لقد بكت الملائكة يا فتى من بكائك».
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} قال الحسين وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لأن الله سبحانه علمها منهم وحفظها عليهم، وكتبت الملائكة عليهم، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وعنه أيضًا لا يسأل الملائكة المجرمين؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم، دليله ما بعده، وإلى هذا القول ذهب مجاهد، وعن ابن عباس أيضًا في قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا؟، وقال عكرمة أيضًا: مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها، وعن ابن عباس أيضًا: لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وانما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وقال أبو العالية: لا يسأل غير المذنب عن ذنب المجرم.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} وهو سواد الوجه وزرقة العيون {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} فيسحبون إلى النار ويقذفون فيها ثم يقال لهم: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} المشركون. {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} قد انتهى خبره، وقال قتادة: آني طبخه منذ خلق الله السماوات الأرض، ومعنى الآية أنهم يسعون بين الجحيم وبين الحميم.
قال كعب الأحبار: (أن) (وادي) من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم وهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث الله سبحانه لهم خلقًا جديدًا، فيلقون في النار فذلك قوله سبحانه: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي مقامه بين يدي ربّه، وقيل: قيامه لربه، بيانه قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} [المطففين: 6]، وقيل: قيام ربّه عليه، بيانه قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] قال إبراهيم ومجاهد: هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافة الله. قال ذو النون: علامة خوف الله أن يؤمنك خوفه من كل خوف، وقال السدّي: شيئان مفقودان الخوف المزعج والشوق المقلق.
{جَنَّتَانِ} بستانان من الياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، ترابهما الكافور والعنبر وحمأتهما المسك الأذفر، كل بستان منهما مسيرة مائة سنة، في وسط كلّ بستان دار من نور.
قال محمد بن علي الترمذي: جنة بخوفه ربّه، وجنّة بتركه شهوته. قال مقاتل: هما جنّة عدن وجنّة النعيم، وقال أبو موسى الأشعري: جنّتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «هل تدرون ما هاتان الجنتان؟، هما بستانان في بساتين، قرارهما ثابت، وفرعهما ثابت، وشجرهما ثابت».
وأخبرني عقيل إجازة قال: أخبرنا المعافى قراءة قال: أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال: حدّثني محمد بن موسى الجرشي قال: حدّثنا عبد الله بن الحرث القرشي قال: حدّثنا شعبة بن الحجاج قال: حدّثنا سعيد الحريري عن محمد بن سعد عن أبي الدرداء قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء».
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} قال ابن عباس: ألوان، وواحدها فن وهو من قولهم: افتنّ فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب، قال الضحاك: ألوان الفواكه. مجاهد: أغصان وواحدها فنن. عكرمة: ظل الأغصان على الحيطان. الحسن: ذواتا ظلال، وهو كقوله: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30]. قال الضحاك أيضًا: ذواتا أغصان وفصول. قال: وغصونها كالمعروشات تمسّ بعضها بعضًا، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال قتادة: ذواتا فضل وسعة على ما سواهما. قال ابن كيسان: ذواتا أصول.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} قال ابن عباس: بالكرامة والزيادة على أهل الجنة، وقال الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما التسنيم والأُخرى السلسبيل.
عطية: إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: إنهما تجريان من جبل من مسك، وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان بالبكاء.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} صنفان.
قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة أو مرّة إلاّ وهي في الجنة حتى الحنظل إلاّ أنه حلو.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ} حال {عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش {بَطَآئِنُهَا} جمع بطانة {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غلظ من الديباج وحسن، وقيل: هو أَستبر معرب.
قال ابن مسعود وأبو هريرة: هذه البطائن فما ظنّكم بالظهائر؟، وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله سبحانه: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وعنه أيضًا قال: بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد، وقال الفرّاء: أراد بالبطائن الظواهر.
قال المؤرخ: هو بلغة القبط، وقد تكون البطانة ظهارة والظهارة بطانة؛ لأن كل واحد منهما يكون وجهًا، تقول العرب: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء للذي يراه، وقال عبد الله ابن الزبير في قتلة عثمان: قتلهم الله شرّ قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب، يعني هربوا ليلا، فجعل ظهور الكواكب بطونًا.
قال القتيبي: هذا من عجيب التفسير، وكيف تكون البطانة ظهارة، والظهارة بطانة؟ والبطانة من بطن من الثوب، وكان من شأن الناس إخفاؤه، والظهارة ما ظهر منه، ومن شأن الناس إبداؤه، وهل يجوز لأحد ان يقول لوجه المصلي: هذا بطانته، ولما ولي الأرض: هذا ظهارته، لا والله لا يجوز هذا، وانما أراد الله سبحانه وتعالى ان يعرّفنا لطفه من حيث يعلم فضل هذه الفرش، وأن ما ولي الأرض منها إستبرق، وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلّة» فذكر المناديل دون غيرها؛ لأنها أحسن ويصدّق قول القتيبي ما حكيناه عن ابن مسعود وأبي هريرة، والله أعلم.